سورة يوسف - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يوسف)


        


{وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16)}
{وَجَاءوا أَبَاهُمْ عِشَاء} أي في ذلك الوقت. وهو كماقال الراغب من صلاة المغرب إلى العتمة والعشاآن: المغرب. والعتمة.
وعن الحسن أنه قرأ عشيًا بضم العين وفتح الشين وتشديد الياء منونًا وهو تصغير عشى وهو من زوال الشمس إلى الصباح، وعنه أنه قرأ عشى بالضم والقصر كدجى فنصبه على الحال وهو جمع أعشى عند بعض وعاش عند آخرين، وأصله عشاة كماش ومشاة فحذفت الهاء تخفيفًا، وأورد عليهما بأنه لا جواز لمثل هذا الحذف وأنه لا يجمع أفعل فعلاء على فعل بضم الفاء وفتح العين بل فعل بسكون العين، ولذا قيل: كان أصله عشوا فنقلت حركة الواو إلى ما قبلها لكونه حرفًا صحيحًا ساكًا ثم حذفت بعد قلبها ألفًا لالتقاء الساكنين وإن قدر ما بكوا به في ذلك اليوم لا يعشو منه الإنسان؛ وأجيب عن هذا بأن المقصود المبالغة في شدة البكاء والنحيب لا حقيقته أي كان يضعف بصرهم لكثرة البكاء، وقيل: هو جمع عشوة مثلث العين وهي ركوب أمر على غير بصيرة يقال: أوطأه عشوة أي أمرًا ملتبسًا يوقعه في حيرة وبلية فيكون تأكيدًا لكذبهم وهو تمييز أو مفعول له، وجوز أن يكون جمع عشوة بالضم عنى شعلة النار عبارة عن سرعتهم لابتهاجهم بما فعلوا من العظيمة وافتعلوا من العضيهة، وجوز أن يكون {عشاءًا} في قراءة الجمهور جمع عاش مثل راع ورعاء ويكون نصبه على الحال، والظاهر الأول، وإنما جاءوا عشاء إما لأنهم لم يصلوا من مكانهم إلا في ذلك الوقت، وإما ليكونوا أقدر على الاعتذار لمكان الظلمة التي يرتفع فيها الحياء، ولذا قيل: لا تطلب الحاجة بالليل فإن الحياء في العينين ولا تعتذر في النهار من ذنب فتلجلج في الاعتذار وهل جاءوا في عشاء اليوم الذي ذهبوا فيه أو في عشار يوم آخر؟ ظاهر كلام بعضهم الأول، وذهب بعضهم إلى الثاني بناءًا على ما روي أنه عليه السلام مكث في الجب ثلاثة أيام وكان إخوته يرعون حواليه وكان يهوذا يأتيه بالطعام.
وفي الكلام على ما في البحر حذف والتقدير {يَشْعُرُونَ وَجَاءوا أَبَاهُمْ} دون يوسف {عشاءًا} {عِشَاء يَبْكُونَ} أي متباكين أي مظهرين البكاء بتكلف لأنه لم يكن عن جزن لكنه يشبهه، وكثيرًا ما يفعل بعض الكذابين كذلك، أخرج ابن المنذر عن الشعبي قال: جاءت امرأة إلى شريح تخاصم في شيء ففجعلت تبكي فقالوا: يا أيا أمية أما تراها تبكي؟ا فقال: قد جاء إخوة يوسف أباهم عشاءًا يبكون، وقال الأعمش: لا يصدق باك بعد إخوة يوسف، وفي بعض الآثار أن يعقوب عليه السلام لما سمع بكاءهم قال: ما بالكم أجري في الغنم شيء؟ قالوا: لا قال: فما أصابكم وأين يوسف؟.


{قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ ؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)}
{قَالُواْ يَأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} أي متسابقين في العدو على الأقدام على ما روي عن السدى، أو في الرمي بالسهام كام قال الزجاج، أو في أعمال نتوزعها من شقي ورعي واحتطاب أو في الصيد وأخذه كما قيل، ورجح ما قاله الزجاج بقراءة عبد الله إنا ذهبنا ننتضل وأورد على الأول أنه كيف ساغ لهم الاستباق في العدو وهو من أفعال الصبيان التي لا ثمرة فيها، وأجيب باملنع وثمرته التدرب في العدو لحاربة العدو ومدافعة الذئب مثلا؛ وبالجملة {نَسْتَبِقُ} عنى نتسابق وقد يشترك الافتعال والتفاعل فيكونان عنى كالانتضال والتناضل ونظائرهما {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ متاعنا} أي ما يتمتع به من الثياب والازواد وغيرهما {فَأَكَلَهُ الذئب} عقيب ذلك من غير مضي زمان يعتاد فيه التفقد والتعهد وحيث لا يكاد يطرح المتاع عادة إلا في مقام يؤمن فيه الغوائل لم يعد تركه عليه السلام عنده ن باب الغفلة وترك الحفظ الملتزم لا سيما إذ لم يغيبوا عنه فكأنهم قالوا: إنا لم نقصر في محافظته ولم نغفل عن مراقبته بل تركناه في مأمننا ومجمعنا رأى منا وما فارقناه إلا ساعة يسيرة بيننا وبينه مسافة قصيرة فكان ما كان قاله شيخ الإسلام، والظاهر أنهم لم يريدوا إلا أن الذئب أكل يوسف ولم يقصدوا بذلك تعريضًا فما قيل: إنهم عرضوا وأرادوا أكل الذئب المتاع لا يلتفت إليه لما فيه من الخروج عن الجادة من غير موجب {وَمَا أَنتَ ؤْمِنٍ لَّنَا} أي ما أنت مصدق لنا في هذه المقالة {وَلَوْ كُنَّا} عندك وفي اعتقادك {صادقين} أي موصوفين بالصدق والثقة لفرط محبتك فكيف وأنت سيء الظن بنا غير واثق بقولنا، قيل: ولا بد من هذا التأويل إذ لو كان المعنى {وَلَوْ كُنَّا صادقين} في نفس الأمر لكان تقديره فكيف إذا كنا كاذبين فيه فيلزم اعترافهم بكذبهم فيه، وقد تقدم أن المراد في مثل ذلك تحقيق الحكم السابق على كل حال فكأنه قيل هنا: {وَمَا أَنتَ ؤْمِنٍ لَّنَا} في حال من الأحوال فتذكر وتأمل.


{وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)}
{وَجَاءوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} أي ذي كذب أو وصف بالمصدر مبالغة كأنه نفس الكذب وعينه كما يقال للكذاب: هو الكذب بعينه والزور بذاته، ومن ذلك ما في قوله:
أفيضوا على عزابكم من بناتكم *** فما في كتاب الله أن يحرم الفضل
وفيهن فضل قد عرفنا مكانه *** فهن به جود وأنتم به مَن بَخِلَ
وبعضهم يؤوّل كذب كذوب فيه فإن المصدر قد يؤوّل ثل ذلك، وقرأ زيد بن على رضي الله عنهماكذبًا بالنصب وخرج على أنه في موضع الحال من فاعل {جَاءوا} بتأويل كاذبين، وقيل: من دم على تأويل مكذوبًا فيه، وفيه أن الحال من النكرة على خلاف القياس، وجوز أن يكون مفعولًا من أجله أي جاءوا بذلك لأجل الكذب، وقرأت عائشة رضي الله تعالى عنها والحسن كدب بالدال المهملة وليس من قلب الذال دالًا بل هو لغة أخرى عنى كدر أو طرى أو يابس فهو من الاضداد، وقال صاحب اللوامح: المعنى ذي كدب أي أثر لأن الكدب بياض يخرج في أظافير الشبان ويؤثر فيها فهو كالنقش ويسمى ذلك الفوق ولم يعتبر بعض المحققين تقدير المضاف وجعل ذلك من التشبيه البليغ أو الاستعارة فإن الدم في القميص يشبه الكدب من جهة مخالفة لونه لون ما هو فيه، وقوله سبحانه: {على قَمِيصِهِ} على ما ذهب إليه أبو البقاء حال من دم، وفي جواز تقديم الحال على صاحبها المجرور بالحرف غير الزائد خلاف، والحق كما قال السفاقسي: الجواز لكثرة ذلك في كلامهم، وفي اللباب ولا تتقدم على صاحبها المجرور على الأصح نحو مررت جالسة بهند إلا أن يكون الحال ظرفًا على أن الحق ما اختاره ابن مالك من جواز التقديم مطلقًا، وقال الزمخشري. ومن تبعه: إنه في موضع النصب على الظرفية أي جاءوا فوق قميصه كما تقول: جاء على جماله بأحمال، وأراد على ما في الكشف أن {على} على حقيقة الاستعلاء وهو ظرف لغو، ومنع في البحر كون العامل فيه المجيء لأنه يقتضي أن الفوقية ظرف للجائين، وأجيب بأن الظرفية ليست باعتبار الفاعل بل باعتبار المفعول.
وفي بعض الحواشي أن الأولى أن يقال: جاءوا مستولين على قميصه، وقوله سبحانه: {بِدَمٍ} حال من القميص، وجعل المعنى استولوا على القميص ملتبسًا بدم جائين، وهو على ما قيل: أولى من جاءوا مستولين لما تقرر في التضمين، والأمر في ذلك سهل فإن جعل المضمن أصلًا والمذكور حالا وبالعكس كل منهما جائز وإذا اقتضى المقام أحدهما رجح، واستظهر كونه ظرفًا للمجيء المتعدي، والمعنى أتوا بدم كذب فوق قميصه ولا يخفي استقامته، هذا ثم إن ذلك الدم كان دم سخلة ذبحوها ولطخوا بدمها القميص كما روي عن ابن عباس.
ومجاهد.
وأخرج ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن قتادة أنهم أخذوا ظبيًا فذبحوه فلظخوا بدمه القميص، ولما جاءوا به جعل يقلبه فيقول: ما أرى به أثر ناب ولا ظفر إن هذا السبع رحيم، وفي رواية أنه أخذ القميص وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص، وقال: تالله ما رأيت كاليوم ذئبًا أحلم من هذا أكل ابني ولم يمرق عليه قميصه، وجاء أنه بكى وصاح وخر مغشيًا عليه فأفاضوا عليه الماء فلم يتحرك ومادوه فلم يجب ووضع يهوذا يده على مخارج نفسه فلم يحس بنفس ولا تحرك له عرق، فقال: ويل لنا من ديان يوم الدين ضيعنا أخانا وقتلنا أبانا فلم يفق إلا ببرد السحر {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ} أي زينت وسهلت {أمْرًا} من الأمور منكرًا لا يوصف ولا يعرف، وأصل التسويل تقدير شيء في النفس مع الطمع في إتمامه.
وقال الراغب: هو تزيين النفس لما تحرص عليه وتصوير القبيح بصورة الحسن.
وقال الأزهري: كأن التسويب تفعيل من سوال الإنسان وهو أمنيته التي يطلبها فتزين لطالبها الباطل وغيره وأصله مهموز، وقيل: من البسول بفتحتين وهو استرخاء في العصب ونحوه كأن المسول لمزيد حرصه استرخى عصبه، وفي الكلام حذف على ما في البحر أي لم يأكله الذئب {بَلْ سَوَّلَتْ} الخ، وعلمه عليه السلام بكذبهم قيل: حصل من سلامة القميص عن التمزيق وهي إحدى ثلاثة آيات في القميص: ثانيتها عود يعقوب بصيرًا بالقائه على وجهه، وثالثتها قده من دبر فانه كان دليلًا على براءة يوسف، وينضم إلى ذلك وقوفه بالرؤيا الدالة على بلوغه مرتبة علياء تنحط عنها الكواكب، وقيل: من تناقضهم فانه يروى أنه عليه السلام لما قال: ما تقدم عن قتادة قال بعضهم: بل قتله اللصوص فقال: كيف قتلوه وتركوا قميصه وهم إلى قميصه أحوج منهم إلى قتله؟ا ولعله مع هذا العلم إنما حزن عليه السلام لما خشى عليه من المكروه والشدائد غير الموت، وقيل: إنما حزن لفراقه وفراق الأحبة مما لا يطاق، ولذلك قيل:
لولا مفارقة الأحباب ما وجدت *** لها المنايا إلى أرواحنا سبلا
ولا بأس بأن يبقال: إنه أحزنه فراقه وخوف أن يناله مكروه {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} أي فأمرى صبر جميل، أو فصبري صبر جميل كما قال قطرب، أو فالذي أفعله ذلك كما قال الخليل. أو فهو صبر إلخ كما قال الفراء، وصبر في كل ذلك خبر مبتدأ محذوف. أو فصبر جميل أمثل وأجمل على أنه مبتدأ خبره محذوف، وهل الحذف في مثل ذلك واجب. أو جائز؟ فيه خلاف، وكذا اختلفوا فيما إذا صح في كلام واحد اعتبار حذف المبتدأ وإبقاء الخبر واعتبار العكس هل الاعتبار الأول أولى أم الثاني؟.
وقرأ أبي. والأشهب. وعيسى بن عمر فصبرًا جميلًا بنصبهما وكذا في مصحف أنس بن مالك، وروي ذلك عن الكسائي، وخرج على أن التقدير فاصبر صبرًا على أن اصبر مضارع مسند لضمير المتكلم، وتعقب بأنه لا يحسن النصب في مثل ذلك إلا مع الأمر، والتزم بعضهم تقديره هنا بأن يكون عليه السلام قد رجع إلى مخاطبة نفسه فقال: صبرًا جميلًا على معنى فاصبري يا نفس صبرًا جميلًا، والصبر الجميل على ما روي الحسن عنه صلى الله عليه وسلم ما لا شكوى فيه أي إلى الخلق وإلا فقد قال يعقوب عليه السلام: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى الله} [يوسف: 86]، وقيل: إنه عليه السلام سقط حاجباه على عينيه فكان يرفعهما بعصابة فسئل عن سبب ذلك فقال: طول الزمان وكثرة الأحزان فأوحى الله تعالى إليه أتشكو إلى غيري، فقال يا رب خطيئة فاغفرها.
وقيل: المراد من قوله: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} أني اتجمل لكم في صبري فلا أعاشركم على كآبة الوجه وعبوس الجبين بل أبقى على ما كنت عليه معكم وهو خلاف الظاهر جدًا {والله المستعان} أي المطلوب منه العون وهو إنشاء منه عليه السلام للاستعانة المستمرة {على مَا تَصِفُونَ} متعلق بالمستعان والوصف ذكر الشيء بنعمته وهو قد يكون صدقًا وقد يكون كذبًا، والمراد به هنا الثاني كما في قوله سبحانه: {سبحان رَبّكَ رَبّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 180] بل قيل: إن الصيغة قد غلبت في ذلك ومعنى استعانته عليه السلام بالله تعالى على كذبهم طلبه منه سبحانه إظهار كونه كذبًا بسلامة بوسف عليه السلام والاجتماع معه فيكون ذكر الاستعانة هنا نظير {عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا} [يوسف: 83] بعد قوله فيما بعد: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}، وفي بعض الآثار أن عائشة رضي الله عنها قالت يوم الإفك: والله لئن حلفت لا تصدقوني ولئن اعتذرت لا تعذروني فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وولده والله المستعان على ما تصفون فأنزل الله تعالى في عذرها ما أنزل، وقيل: المراد إنه تعالء المستعان على احتمال ما تصفونه من هلاك يوسف كأنه عليه السلام بعد أن قال: صبر جميل طلب الإعانة منه تعالى على الصبر وذلك لأن الدواعي النفسانية تدعو إلى إظهار الجزع وهي قوية والدواعي الروحانية الصبر الجميل فكأنه وقعت المحاربة بين الصفتين فما لم تحصل المعونة منه جل وعلا لا تحصل الغلبة، فقوله: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} يجرى مجرى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] {والله المستعان على مَا تَصِفُونَ} يَجْرِى مجرى {وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ولعل الأول أسلم من القال والقيل، وللإمام الرازي عليه الرحمة في هذا المقام بحث، وهو: أن الصبر على قضاء الله تعالى واجب وأما الصبر على ظلم الظالمين ومكر الماكرين فغير واجب بل الواجب إزالته لاسيما في الضرر العائد إلى الغير فكان اللائق بيعقوب عليه السلام التفتيش والسعى في تخليص يوسف عليه السلام من البلية والشدة إن كان حيًا، وفي إقامة القصاص إن صح أنهم قتلوه بل قد يقال: إن الواجب المتعين عليه السعي في طلبه وتخليصه لأن الظاهر أنه كان عالمًا بأنه حي سليم لقوله: {وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الاحاديث} [يوسف: 6] فإن الظاهر أنه إنما قاله عن وحي، وأيضًا إنه عليه السلام كان عظيم القدر جليل الشأن معظمًا في النفوس مشهورًا في الآفاق فلو بالغ في الطلب والتفحص لظهر ذلك واشتهر ولزال وجه التلبيس فما السبب في تركه عليه السلام الفحص مع نهاية رغبته في حضور يوسف وغاية محبته له، وهل الصبر في هذا المقام إلا مذموم عقلًا وشرعًا؟ ثم قال: والجواب أن نقول: لا جواب عن ذلك إلا أن يقال: إنه سبحانه وتعالى منعه عن الطلب تشديدًا للمحنة وتغليظًا للأمر، وأيضًا لعله عرف بقرائن الأحوال أن أولاده أقوياء وأنهم لا يمكنونه من الطلب والتفحص وأنه لو بالغ في البحث را أقدموا على إيذائه وقتله، وأيضًا لعله عليه السلام علم أن الله تعالى يصون يوسف عن البلاء والمحنة وأن أمره سيعظم بالآخرة ثم لم يرد هتك ستر أولاده وما رضي بإلقائهم في ألسنة الناس، وذلك لأن أحد الولدين إذا طلم الآخر وقع الأب في العذاب الشديد لأنه إن لم ينتقم يحترق قلبه على الولد المظلوم وإن أنتقم يحترق على الولد الذي ينتقم منه، ونظير ذلك ما أشار إليه الشاعر بقوله:
قومي هم قتلوا أميم أخي *** فإذا رميت يصيبني سهمي
ولئن عفوت لأعفون جللا *** ولئن سطوت لموهن عظمي
فلما وقع يعقوب عليه السلام في هذه البلية رأى أن الأصوب الصبر والسكوت وتفويض الأمر بالكلية إلى الله تعالى لا سيما إن قلنا: إنه عليه السلام كان عالمًا بأن ما وقع لا يمكن تلافيه حتى يبلغ الكتاب أجله.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9